د. نورالدين ثنيو يكتب: اللغة العربية في عصر الهويّات المفتوحة

د. نورالدين ثنيو يكتب: اللغة العربية في عصر الهويّات المفتوحة

نعيش في عصر الهويات المفتوحة التي لا تكتفي فقط بذاتها بقدر ما تبحث عن الآخر كأفضل سبيل لاكتمال وانسجام الهوية مع العصر ومتطلباته وتلافيا للمآزق والأزمات والمفارقات الثقافية والحضارية.

فإذا كانت اللغة العربية، لغة حية مثلها مثل سائر اللغات الحية في العالم، فإنها مدعوة دائما إلى التجدد، ومن ثم تجديد الهوية ذاتها للصلة القوية بين اللغة والملامح القاعدية للذات الإنسانية. فلا نضيف جديدا، إذا قلنا إن اللغة هي الوعاء والحامل لهوية القوم أو الجنس الذي يتكلم بها. وهذا صحيح إلى حد كبير ويصدق على اللغة العربية، وقدرتها على تشكيل والحفاظ على الهوية العربية. لكن اللغة لا تكف عن التطور والنماء المتواصل مع معطيات الكون والدنيا، وعن التطلع إلى المستقبل لاستيعاب مفرداته وكلماته وجمله المفيدة كأفضل سبيل إلى السيطرة على الأشياء المادية والمعنوية.

وعليه، فان اللغة العربية، بما تمتلك من قدرة ذاتية، إنْ على مستوى البنية أو الامتداد على مستوى الدين والدنيا والآخرة، فيجب عليها أن لا تتوقف عن البحث في الهوية وعنها أيضا، لأن البحث عن الهوية، في جزء كبير منه متأت من وحي وجود الهوية ذاتها، بمعنى أن البحث عن الهوية ومحاولة الوجود والانسجام معها، لا يعني بحال غياب الهوية، لأن الدافع إلى البحث المتواصل عنها جاء بدافع ديمومة وجودها المتطلع إلى الكمال والانسجام مع معطيات ومقتضيات العصر في آخر مراحله. لا جدال إذن، في أن تطرح مسألة اللغة العربية والهوية ضمن إشكالية العصر: الهوية العربية مع/ في مواجهة الآخر كأفضل سبيل للوقوف على الهوية المتجددة، القادرة على استيعاب الجديد دونما تنكر للتراث والأصيل، لا بل الكل يتماشى في لحظة آنية وفورية تعبِّر عن العصر في آخر مراحله الفائقة. فقد صار الآخر، طرفا مهمًا في بلورة الأنا، الذات أو الهوية كأفضل سبيل لتجاوز الاستلاب والاغتراب والمسخ، إذا لم نقل الاندثار والانمحاء.

مع تجدد اللغة تتجدد الهوية، والعكس صحيح أيضا، فمع إدراك قيمة الهوية يزيد الاهتمام باللغة، حيث يتم في اللحظة ذاتها السعي إلى امتلاك المفردات والصيّغ الجديدة لتجديد التعامل مع اللغة في صلتها بالهوية، أي التقدم على صعيد العلم والمعرفة والشعور بمسؤوليتنا عن مصير العالم والناس الذين يعيشون فيه. فالحديث عن اللغة في صلتها بالهوية، كما نبحثها في العالم العربي، حديث أثير لأنها تحثنا على واجب التقدم والتطور والنماء على مختلف الصُّعُد والمستويات، كأفضل سبيل لامتلاك انسجام وحصانة الإنسان العربي ومجتمعه، ومن ثم زيادة رصيده الثقافي وعدّته الحضارية، بحيث لا يخشى إطلاقا التماهي والتلاشي والاضمحلال.

فكل تعامل مع الجديد ومع الآخر هو إضافة جديدة إلى الذات أو ما يعرف بالشخصية القاعدية التي يصهرها التاريخ والجغرافيا، التي تحدد، في نهاية التحليل، الإنسان العربي على أنه عربي، أي أنه يعرف نفسه من خلال اللغة، ويتعرف عليه الغير كونه يتحدث العربية ويعبر بها عن رأيه في النقاش العالمي. إن أخذ الكلمة، في سياق العصر الفائق، ليعرب الإنسان عن رأيه، في الوقت ذاته يحكم عليه الآخرون أيضا بأنه عربي.

وهكذا، فإن الحديث عن الهوية العربية في صلتها باللغة العربية، هو حديث برسم الاكتمال والسعي إلى ملء النقص في البنية التي لا تكف عن عملية البناء وإعادة البناء فقد سبقت الإشارة إلى أنه يستحيل البحث عن الهوية في غيابها، بل البحث عنها هو عنوان كبير على وعي قومي يرنو إلى الانسجام والكمال، والهوية العربية من هذه الناحية هي مشروع مفتوح آيل إلى الالتقاء بعناصر الذات مع معطيات الكون والعالم.

ما تعاني منه الهوية العربية هو عدم امتلاكها لروح الحداثة في كافة تجلياتها ومظاهرها، وغابت بسبب ذلك قضايا العصر الكبرى عن وعي الإنسان العربي ومسؤولية الدول العربية عن مصير العالم، أي نصيب العرب في الحفاظ على سلامة الوجود الإنساني وتطوره، على ما تصنع الدول الكبرى التي تشعر بأنها مسؤولة عن العالم ومصيره، وتسخِّر كافة الإمكانات المادية والمعنوية من أجل مواجهة التحديات والرهانات التي تلازم وترافق العلاقات الدولية، ومخلَّفات العلم والتكنولوجيا. وبتعبير آخر يهم العرب، أن يرتقي الإنسان العربي بهويته إلى مرتبة التعلق بمصير الإنسانية، كما توحي به نصوص الخطاب القرآني، من أجل أن يتسنى له العيش في لحظة انسجام اللغة مع الهوية التي لا تكف عن الانفتاح على الغير والآخر، بعدما صارت الغيرية جزءا مهمًا في بناء وتكوين الذات.

مقال رأي للكاتب والباحث الجزائري د. نورالدين ثنيو نقلا عن صحيفة القدس العربي


إضافة تعليق