حضرت منذ عدة سنوات مؤتمرًا في إحدى دول مجلس التعاون، كان المؤتمر يناقش مسألة الهوية، وأهمية المحافظة على اللغة العربية كلغة للأمة، وقيمها، وتراثها الوطني والقومي، وكان أحد المتحدثين بهذا المؤتمر، المفكر الفلسطيني المعروف، د. عزمي بشارة، وبحكم أنه من سكان أرض 48 المحتلة، قال: إنني زرت كل مناطق عاصمة الكيان الإسرائيلي (تل أبيب)، ولم أجد مدرسة خاصة تدرس اللغة الإنجليزية، أو أي لغة أجنبية، كل المدارس باللغة العبرية، فالعبرية لغة اندثرت منذ قرون، تم إحياؤها من جديد، مع أنها كانت لغة ميتة، وكان اليهود في العصور الوسطى وما بعدها، وفي فترة الحضارة الإسلامية، كانوا يكتبون باللغة العربية، لا باللغة العبرية.
الآن أصبحت اللغة العبرية في إسرائيل، لغة العلم، والأدب والتاريخ، ونحن للأسف نهمل لغتنا العربية في الكثير من جامعاتنا وكلياتنا، ونجعلها حتى تنافسنا في الوظائف الوطنية في أحايين كثيرة! وهذا للأسف مجازفة كبيرة وخطيرة لهوية الأمة، ذلك أن اللغة الإنجليزية، ليست ضرورة في كل المهام في الوظائف حتى العلمية منها، حتى نجعل منها اللغة الأساسية في مدارسنا وكلياتنا، بل إنها قد تكون مطلوبة في بعض المهن الفنية، والفنية الدقيقة التي تستلزم نوعية من الأجهزة ذات الطابع التقني المتقدم، لكن وجود الأجنبي غير العربي، يكون مؤقتًا، حتى يأتي من هو في خبرته بعد تأهيله، لذلك يجب أن نعزز اللغة الوطنية من خلال مناهجها، في التعليم العام، وفي الجامعات والكليات، ونجعلها أساسية في كل تعاملاتنا الإدارية والفنية، وهذا يتطلب أن نركز على التعريب بدلًا من اعتماد اللغات الأجنبية في أغلب جامعاتنا، فاشتراط اللغة الأجنبية، يعني زيادة البعد عن الهوية واللغة أساسها. إن أهمية اللغة الأجنبية ـ كما يقول د. أحمد الضبيب ـ “تندرج حسب اهتمامات الأشخاص، والمواقع التي يحتلونها في المجتمع، من حيث قربها من مصادر اللغة أو بعدها عنها. ولذلك فإن اللغة الإنجليزية قد تكون مهمة جدًا لبعض الناس الذين تتصل أعمالهم بها اتصالًا مباشرًا، ولكنها قد تكون أقل أهمية للآخرين، بل إن الحاجة إليها تنعدم من درجة الصفر عند كثير من الناس الذين يجب أن تقدم لهم الخدمات والاحتياجات في بلادهم باللغة العربية، كما يحدث لمعظم مواطني بلاد الدنيا. إذن مادامت اللغة الإنجليزية غير (ضرورية) لكل مواطن ولكنها (مهمة) لبعضهم وتتدرج أهميتها حسب الاختصاص والثقافة والموقع، فليس هنالك ما يدعو إلى تعليمها منذ الصفوف الأولى في المدرسة. لأن التعليم العام ملزم بتقديم الضروريات، التي لا يستغني عنها المواطن في حياته، أما ما يتفاوت فيه الناس فإن ذلك متروك لكل شخص على حدة، فهو أقدر على إشباع رغباته واحتياجاته الثقافية بالطريقة التي يختارها، من غير فرض أو إجبار”.
ومع أهمية هذه اللغة العظيمة وأهميتها ودورها في الحضارة والعلوم الإنسانية، إلا أن هذه اللغة بدأت بالإهمال والإقصاء وتقصى في الكثير من جامعاتنا وكلياتنا الوطنية. الحكومية والخاصة، وهذا التعليم باللغة الأجنبية، لم تقتصر على المواد العلمية الخالصة، بل امتدت إلى العلوم الإنسانية، كالتاريخ، الاجتماع والإعلام! وهذه للأسف مزاحمة واضحة للغة العربية، وإقصاؤها، وهذا خطر واضح على الهوية الوطنية بلا شك، وأيضا أصبحت اللغة الأجنبية، مفروضة في أغلب الشركات الوطنية والأجنبية، بسبب سيادة اللغات الأجنبية على اللغة العربية، وللأسف أصبحت اللغة الأجنبية مطلبا للوظيفة، وأصبحت جامعاتنا وكلياتنا تتجه إلى اللغة الأجنبية، لأن اللغة الإنجليزية هي السائدة في الكثير من المؤسسات والشركات! مع أن أغلب الوظائف لا تستدعي هذه اللغة، وأن اللغة العربية كلغة عالمية، قادرة على استيعاب كل العلوم العصرية، كما استوعبت العلوم في العصور الأولى، من الحضارات الأخرى التي سبقتها، وازدهرت الحضارة العربية الإسلامية، ومن خلال الترجمة، وليست عن طريق تبني اللغة الأجنبية، وحتى لا نجعل أبناءنا منقسمين ذهنيًا، فنجعلهم مثلما تقول الأمثال، مثل الغراب، عندما أراد يومًا أن يقلّد طائر الطاووس، فلا هو أتقن مشية الطاووس، ولا استطاع إتقان مشية الغربان، مشيته الأصلية! وهذه مشكلة خطيرة تستوجب المراجعة الجدية من جهات الاختصاص في بلادنا العربية فرض تعريب اللغة في هذه المؤسسات كاملا، مع استثناء بعض المهن الدقيقة التي تتطلب لغة أجنبية، مع الاتفاق مع الجامعات والكليات الخاصة، تطبيق هذه التعريب، واستثناء بعض التخصصات الفنية العلمية، وهذا هو الطريق الأنسب والأجدى، للحفاظ على الهوية الوطنية، ونجاح التعريب في بلداننا.
مقال رأي للكاتب عبد الله بن علي العليان نقلا عن صحيفة “الشرق” القطرية