ينبغى ثقافيا وفكريا وقوميا الابتعاد عن إحلال اللهجات العربية العامية أو المحكية أو اللغات غير اللغة العربية – لغة الأم – محل اللغة العربية الفصحى. اللغة العربية الفصحى ما فتئت تقوم بدور العامل الموحِّد الثقافي والفكري والقومي والقيمي- الأخلاقي على المستوى الأعلى. ونظرا إلى أن اللغة العربية الفصحى تؤدي هذا الدور الموحِّد الثقافي والفكري والقيمي- الأخلاقي فلا مبرر للاستغناء عنها ولإحلال لهجات عامية محلها. وفي الواقع ليس ثمة اختلاف كبير بين اللهجات العامية واللغة العربية الفصحى.
المتكلم بالعربية يفهم اللغة العربية الفصحى ما دامت الألفاظ العربية ليست غريبة أو مهجورة أو نادرة الاستعمال وما دام الأسلوب يسيرا واللفظ معروفا. إن الأغلبية الساحقة من الناطقين باللغة العربية – بقطع النظر عن مستواهم التعلمي والثقافي – تحب وتحترم اللغة العربية الفصحى وتتذوقها ومنهم من يحاول استعمالها. وهذه الأغلبية تفهم ما تسمعه من اللغة الفصحى وتبدو هذه اللغة مألوفة لدى الناطقين بها، سواء كانت هذه اللغة منشورة في الصحف والإذاعات أو على شاشات التلفاز. وبمرور الوقت يزداد عدد المطلعين على هذه اللغة أو الملمين بها. وبثّ اللغة العربية الفصحى من محطات التلفاز التي تراعي قواعد اللغة العربية ييسر على الذين يعيشون في كنف اللغة الفصحى فهمها. ومن سمات اللغات المتطورة – واللغة العربية إحداها – أن تكون لها قواعد أو ضوابط النحو والصرف وأن تشتمل على الشاذ والقياس في صيغ الأفعال والأسماء. وفي ذلك لا تختلف العربية عن لغات متطورة أخرى.
وفي هذا الصدد تختلف اللغات بعضها عن بعض في مدى القياس والشذوذ والضوابط التي تضبط الاستعمال اللغوي.
وعند تناول موضوع صعوبة استعمال اللغة العربية الفصحى ينبغي للمتناوِل أن يحدد أصناف الفئات المثقفة التي تستعمل اللغة العربية. بالمتوسط كلما ازداد المستوى الدراسي للناطق بالعربية ارتفاعا ازداد النطق بها يسرا عليه. إن اللغة العربية الفصحى، على الرغم من كثرة قواعد النحو والصرف فيها، ليست بالغة الصعوبة. ونحن نرى ظاهرة نشوء اللغة المحكية العامية لدى كل الشعوب ذلك.
وفضلا عن ذلك فإن صعوبة تعلم لغة من اللغات وكثرة أو ندرة قواعد النحو والصرف ليستا معيارا لمدى صبغتها العلمية، أي لمدى قدرتها على الإعراب الدقيق عن المعاني والمشاعر وعلى الانفتاح الواسع النطاق على التعبير عن الفكر الفلسفي والتحليلي والتفسيري. والمرء الذي يقول إن اللغة العربية لغة تفتقر إلى الصبغة العلمية شخص يفتقر، في نظري، إلى مزيد من دراسة اللغة.
ولا يمكنني أن أفهم كيف يمكن لامرئ لغة أمه هي اللغة العربية أن يروج لفكرة إحلال اللهجات المحكية أو لغات أجنبية محلها وهي لغة القرآن الكريم الذي كان العامل الأعمق والأرسخ أثرا في النظام القيمي والأخلاقي العربي واللغة التي كانت اللغة العلمية العالمية فترة ثمانية قرون، من القرن الثامن حتى القرن الخامس عشر على الأقل.
لقد أثبتت اللغة العربية الفصحى في القرون الوسطى حتى بداية النهضة الأوروبية وفي الوقت الحاضر قدرتها على أداء أغراضها العلمية والأدبية. اللغة العربية الفصحى تشكل إرثا أو تراثا فكريا وأخلاقيا وعلميا وأدبيا وفلسفيا ودينيا مسلما ومسيحيا وقانونيا واسعا جدا وفي مجالات المعرفة الجغرافية والاقتصادية والغنائية والموسيقية. وهو إرث يقدر بمئات آلاف المخطوطات التي تم تحقيق ونشر بعضها ولم يحقق وينشر بعد القسم الأكبر منها في شتى العلوم من الطب والفيزياء والكيمياء والفلك والزراعة والهندسة والرياضيات. وذلك التراث بلغ من حيث وزنه وفيمته ما لا يبرر في أي ظرف من الظروف إهمال اللغة العربية الفصحى.
لا أعتقد أنه توجد لغة مثل اللغة العربية شغلت ذلك الحيز التاريخي المعرفي والعلمي والأدبي والفلسفي. ومما أسهم إسهاما بالغا في معرفة اللغة العربية الفصحى وفهمها وانتشارها وعلو مكانتها كونها وعاء التراث العلمي والقيمي والفلسفي والأدبي عند الشعوب الناطقة بها، وإضعاف اللغة العربية من شأنه أن يكون خسارة للعلم والحضارةالعالمية.
ولتذليل صعوبة تعلم اللغة العربية الفصحى ينبغي تبسيط الاستعمال اللغوي الفصيح عن طريق استعمال الكلمات المألوفة وتبيان الشبه الكبير بين الكلمة الفصحى والكلمة العامية، وتبسيط الاستعمال اللغوي بطرق منها – إذا أمكن ذلك – وضع الفاعل قبل المفعول به، كأن نقول: رأى الطالبُ المعلمَ بدلا من: رأى المعلمَ الطالبُ، والاستغناء عن بعض أصناف الكلمات الممنوعة من الصرف.
وفي الواقع أن اللغة العربية بسماتها البارزة من قبيل استعمال صيغة قواعد التذكير والتأنيث وقواعد استعمال الاسم الموصول المذكر والمؤنث والمفرد والجمع (والمثنى نوع من أنواع الجمع) والتمييز وقواعد استعمال الأفعال الماضي والحاضر والمستقبل وأوزان المصادر والأفعال (أي فعل وفعّل وفاعل وأفعل واستفعل وانفعل وافعلل وفُعل وتفاعل واستفعال وانفعال …) وغير ذلك كثير من قواعد النحو والصرف أيسر وأدق استعمالا بكثير من مئات اللغات الأخرى ومن عدد من اللغات الأوروبية. من الطيب لنا نحن الناطقين بالعربية ألا نصدر الحكم متسرعين أو متهورين على أمر، وفي هذا السياق على لغتنا، دون الاكتناه الحقيقي والمنضبط والمتوازن لطبيعة هذه اللغة التي تستحق عبقريتها ذكر مزاياها وتقديم مزيد من الاحترام لها.
وكما أسلفنا، فإن اللغة العربية الفصحى ليس تعلمها بالغ الصعوبة وليس يسيرا. ولازدياد عدد المتكلمين باللغة الفصحى والمطلعين عليها والملمين بها يزداد عدد الأشخاص الذين يُدخلون كلمات عربية فصحى في لغتهم. وثمة أسباب لتدني مستوى العارفين للغة العربية الفصحى. وأحد هذه الأسباب هو عدم توفر ذوي الكفاءات الوافية بغرض تعليم هذه اللغة. وثمة سبب ثان، وهو الانطلاق في بعض الأماكن من مراعاة اعتبار القواعد المنهج الرئيس في تعليم اللغة، بينما تجب مراعاة اعتبار معرفة وفهم وسرد اللغة أساس النهج التعليمي. يجب أن يعرف ويفهم الطلاب اللغة قبل أن يعرفوا قواعد النحو والصرف. ولا يمكن توقع رفع مستوى معرفة اللغة العربية الفصحى بينما ترتفع نسبة المعلمين على المستويين الثانوي والجامعي الذين يفتقرون إلى الكفاءات اللغوية والتدريسية الوافية بالغرض.
ونظرا إلى الدور العظيم الذي أدته وتؤديه اللغة العربية الفصحى على المستويات الوطني والإقليمي والدولي في كونها وعاء للعلوم والآداب طوال قرون كثيرة ووعاء للمصطلحات العلمية والتكنولوجية والاجتماعية بصفتها إحدى اللغات الست الرسمية للأمم المتحدة، فإن الاستعاضة عن اللغة الفصحى باللغة المحكية لمجرد الزعم المفتقر إلى اليقين بأن شطرا من اللغة المحكية قد يكون أكثر التصاقا في المجال الاجتماعي بالمعاني المعرب عنها إجراء باهظ الثمن وغير مقبول من جانب علماء اللغة والناطقين بها. فاتخاذ اللهجات المحكية لغة للكتابة من شأنه أن يشكل طمسا أم إغفالا للتراث العلمي والأدبي الغني والمخطوطات العديدة باللسان العربي.
وليس من السليم القول إن حالة اللغة اللاتينية وفروعها تشبه حالة اللغة العربية الفصحى ولهجاتها المحكية. الفرق بين اللاتينية وفروعها أوسع كثيرا من الفرق بين العربية الفصحى ولهجاتها. والناطق بالعربية لا يعتبر اللغة الفصحى لغة غريبة عليه. وقد يفوته فهم شيء من اللغة الفصحى، وإذا حصل ذلك فلا يفوته عموما المعنى الإجمالي. وتطورت لدى كل فرع من فروع اللاتينية لغة تختلف عن اللغات الأخرى المتفرعة عن اللاتينية. ولدى كل لغة من هذه اللغات قواعد نحوها وصرفها، بحيث أمسى جائزا وصف كل واحدة منها باللغة المتميزة. وذلك كله غير حاصل في اللغة العربية. وبجهود المحبين منا للغتنا سنحول دون حصول ذلك.