د. خليفة علي السويدي يكتب: لغة تدرس لا تُمارس.. ستندرس

د. خليفة علي السويدي يكتب: لغة تدرس لا تُمارس.. ستندرس

يشهد تاريخ اللغات التي تمت دراستها، مرورها بمرحلة برزخية قبل انتقالها إلى عالم الفناء، فقبل أن تموت هذه اللغات في واقع أهلها ماتت في قلوبهم، وتلاشت من منطوقهم عندما أضحت اللهجات الدارجة هي طريقة تفكيرهم، وأسلوب تعبيرهم. أكتب هذه المقالة وفي قلبي غصة على لغة أراد لها البارئ سبحانه الخلود في عالمنا، وقررنا بوعي منا أو جهالة التخلي عنها، وحصرها في حصة غير تقليدية اسمها دروس اللغة العربية.

خلال جولتي في عالمنا العربي التي شملت مشرقه ومغربه، تعمدت التواصل بلغة عربية مبسطة بمن ألتقي به من موظفي العموم، المسؤولين عن تقديم خدمات للجمهور، وكم كانت صدمتي مؤلمة عندما يقول لك العربي: لماذا تتحدث بهذا الشكل، فكأني مخلوق قادم من فضاء خارجي له لغة خاصة به. لماذا وصل واقع اللغة العربية إلى هذا المستوى؟ سؤال مشروع، والسؤال الأصعب: لماذا ندرس لغة لا يستخدمها أهلها؟

الفصام النكد بين اللغة العربية والتلاميذ يبدأ فور إنهاء الوقت المخصص لحصة اللغة العربية، فتجد أن المعلم الذي امتدح بيانها وأجاد في وصفها وتعطر لسانه بها، تعذر عليه إكمال المسار، فجرس إنهاء حصة اللغة العربية أذن له كي يهجرها إلى العامية. هناك بلا شك استثناء لهذه القاعدة من معلمين نرفع لهم قبعات التحية لتمسكهم بلغتنا القومية حتى بعد الانتهاء من الحصة الرسمية. هؤلاء النفر القلة هم من تشربت حب العربية أفئدتهم ولامس عشقها شغاف قلوبهم. وكم سعدت مؤخراً باتصال حبيب على قلبي من معلم لبناني الأصل عربي الهوى درسني هذه اللغة في مقتبل حياتي المدرسية، ولأنه من جيل صادق في حبه، كان حديثه معي بمنطق أحبه.

العامل الثاني في هجران لغة القرآن مرتبط بالشارع العربي الذي تحكم في فحواه الاقتصاد العالمي، فجولة سريعة في أسواقنا تكتشف خلالها صدق ما أقول. فمراكز تجارية آلت على نفسها إعلان الحرب على اللغة العربية باختيار أسماء أعجمية، وشركات كبرى بعضها وطني المنشأ تسمى بلغة جذورها في الغرب لكنها أتت أكلها في الشرق.

وعلامات تجارية عربية أضحت اللغة الأجنبية شعارها وعنوانها، بل إن بعض الشركات أنشأت مدناً كاملة بمسميات غير وطنية، وكأن اللغة العربية عاجزة عن التعبير عن نفسها حتى بين أهلها، السؤال المحوري إن كان الاقتصاد أصاب بعض أهله بسكرة أدخلتهم في غفلتهم وغيهم أين هو القانون الذي يحمي لغتنا الوطنية. إننا في وطن حكامه نبلاء شعراء فصحاء، لا يشكك أحد في غيرتهم على لغتهم الوطنية، لكن أهل التشريع مطالبون بالتسريع في سن القوانين الرادعة لمن سولت له نفسه دس هويتنا الوطنية بالتخلي عن لغتنا العربية.

المعول الثالث في هدم اللغة العربية يتلخص في الإعلام المسموع والمرئي، أصدقكم الحديث عندما بدأت برنامج “خطوة” نصحني البعض بالتخلي عن اللغة العربية في لهجتي الإعلامية، كي يستطيع المشاهد فهم منطقي كما يزعمون، فكان جوابي اللغة العربية يفهمها أهلها في المشرق والمغرب، بيد أن اللهجة لن يستوعبها إلا أهلها. اللغة يكتسبها الإنسان سماعاً ومن قريب التقيت برجل فرنسي الجنسية عربي الأصل هاجر جده الرابع إلى فرنسا، فنسيت عائلته العربية، لكنه تعلمها عندما أدمن على مشاهدة الرسوم المتحركة الناطقة بالعربية. الإعلام متهم واضح في تغليب اللهجات المحلية على حساب اللغة العربية، وإن لأهله العودة من جديد إلى الأصل بتغليب جو الفصحى في مداخلاتهم وبيانهم.

اللغة أداة تفكير قبل أن تكون وسيلة تخاطب، ستتلاشى من عقولنا إن قررنا النطق بغيرها، ولن نلوم غيرنا فلغتنا مهددة من الداخل.

مقال رأي للدكتور خليفة علي السويدي نقلا عن صحيفة “الاتحاد” الإماراتية


إضافة تعليق